الثلاثاء، 10 يناير 2017

علامات التعجب والاستفهام... نقد قصيدة الشاعر رضوان عبد الرحيم خضر

قراءة في قصيدة الشاعر رضوان عبد الرحيم بعنوان "علامات التعجب والاستفهام " للأستاذة /هدى مصلح النواجحة
علامات التعجب والاستفهام
للشاعر رضوان عبد الرحيم
كم هزني الشعرُ والأوراقُ والقلم ُ
وساء حظي فلا زهو ولا قمم
أهوى معالي الرؤى عشقاً يؤرقني
سرُ التفكر ٍِ هم ٌ كلهُ ألم ُ
سالت نفسي مراراً من تراه أنا
وفي النهى حيرةٌ والسؤل يحتدم ُ
ليلي يحاصرني بؤساً ويتركني
كأنما جسدي في صمته صنم ُ
أنا ك " سيزيف" صخري عقدةٌ وهوى
وعين "زرقاء" عيني والمدى عدم ُ
أنا "ديوجين" مصباحي به ألق ٌ
مازلت أبحثُ عن إنسان يحترم
أنا مسلة عدل ٍ عافه زمني
منسية درست في متنها الرقم
أجول في عجب ٍبين الدروب خطىً
وسؤلهم ساخرٌ ياليتهم فهموا
وراق لي فكر "أفلاطون" معتنقاً
لكنه الدهر جرحٌ ليس يلتئم ُ
متى تكف يد ُ التقبيل ِ تائبة ً
نحو الفضيلة ِعوداً نبعها القيم ُ
متى تنامُ عيونُ الخلق ِ حالمة ً
وينتهي الحزنُ والأوجاعُ والسجم
فالأرضُ غارقةُ بالموت ِمعتركاً
وكلها سبلٌ مفجوعةٌ ودمُ
مازال "هابيلُ " ُفي سفري مواجعهُ
" قابيلُ " ماذا جنى كم لامه الندم
ويا " غرابُ " أعد نبشَ التراب لنا
فحكمة الناس قد ضاعت بها الحكمُ
تناثرت جثث الإنسان ِعارية ً
حلَّ الفناءُ وقتلُ الناس ِ مغتنمُ
سأرتدي كفني فالدورُ يرقبني
وللجريمة ِسفاحٌ ومنتقمُ
ويح الأماني غدتْ جرداءَ قاحلة ً
وقد تغيرت ِ الأفكارُ والشيمُ
فالودُ يخدعنا والحلمُ يهجرنا
والقلبُ يشكو وعقدُ الحب ِ منفصمُ
أعيب حولي ونصحي دون موعظة ٍ
كأنما الناسُ في آذانهم صممُ
وصرختي صرخةٌ صماءُ نادبة ٌ
عمري بلا أمل يهوي وينهزمُ
استمرئ الزهوَ من صحراء ِ أمنيتي
وأحتوي فشلي والمشتكى عظمُ
فما ظفرتُ الهوى يوماً بعاطفتي
ولا دنوتُ من الإلهام ِ يضطرمُ
سألتُ فلسفتي عن مخرج ٍومنى
فلا يقين بها والشكُ مرتسمُ
مازلتُ مرتحلاً من دون خارطة ٍ
عقلي يسابقني ما شاء يقتحمُ
تناقضٌ ينبري في نهج خاتمتي
فلا أفوزُ ولا أرضى واحتكمُ
أعيدُ ترتيبَ أوراقي وأحرقها
فعلي خطابٌ فلا يجدي به الكلمُ
كعادتي أنزوي من دون ِمفخرة ٍ
في ظلمة ِ الزمن ِ المكدود ِأبتسمُ

يباغتنا عنوان القصيدة العجيب الذي لا يحمل اسماً ولا فعلا ًليعطي المتلقي مفهوماً مطلقاً ننطلق من خلاله كعتبة رئيسة يدخل في حناياه النص , ولكنه من نوع آخر يجعلك متلهفاً لفض سر العنوان , وهذه عتبة يكتنفها الغموض والدهشة والحيرة ؛ وذلك لجمع علامات التعجب والاستفهام , إذاً الاستنطاق الأول يوحي بكثرة المواقف التي تثير العجب , ثم يأتي بعد ذلك كثرة التساؤل . نحن أمام قضية فلسفية المنطق والتسلسل, تعجبٌ تم تساؤل تم نضع الفروض,فالبرهان المكتنز بالبراهين المقنعة, والتي ستبين سبب التعجب ,وتجيب على التساؤلات .
 القصيدة من سبعةٍ وعشرين بيتاً كما وردت . وأستطع تقسيم القصيدة ِ إلى مفاصل ٍ , أي أفكار القصيدة الواردة .
في الفكرة الأولى وتعتبرُ أطولُ فكرة في القصيدة حازت على تسعة أبيات.من بداية البيت الأول تظهر العلاقة الحميمة بين العنوان وبداية القصيدة في كم التي افتتح بها القصيدة والدالة على الكثرة , وساقها بأسلوب التعجب, وفي الأبيات يظهر الشاعر مثقلاً بالهم والأسى , وفاقداً للثقة بمن حوله من الناس . فالشاعر سيء الحظ في قوله ( وساء حظي فلا زهو ولا قسم ) وإذا ما هوى وعشق معالي الرؤى كان عشقها غير مسر ٍ له , وفي الإمعان, ينقلب أو يجده هم مليء بالألم . فيقول : ( أهوى المعالي ....سر التفكر كله ألم ) , وعندما يستفسر عن نفسه لا يجد الإجابة ولكنه يجد الحيرة تدور في لبه ويبقى سؤاله دون إجابة (سألت نفسي.....وفي النهى حيرة والسؤل يحتدم ) , ثم نراه يؤكد على حزنه حتى الليل مصدر السكون والراحة فهو أحد مصدر الشقاء يحاصره بالبؤس فيقول : ( ليلي يحاصرني بؤساً ..) , لكن الشاعر يجعل له شبهاً من المشاهير في الأساطير اليونانية القديمة والذين كانوا مثالاً في المعاناة والقهر منهم سيزيف مدحرج الصخرة الذي عوقب من الآلهة ويقول عيناه ترى عن بعد أي أنه صاحب تحسب وبعد نظر ويشير إلى ما كانت تتمتع به زرقاء اليمامة لكننه لا يرى شيئا في قوله ( أنا كسيزيف ...........والمدى عدم )وهو أيضاً كديوجين الفيلسوف الذي عاش في برميل من الخشب , وكان يمشي حافياً وفي يده قنديل يوقده في ضوء الشمس ؛ لأنه كان يبحث عن الإنسان , وكان يحتقر رجال السلطة .وهنا يشير الشاعر لسبب معاناته , فهو مسلة عدل لكن أهل زمانه أصبحوا ممارين كاذبين لا يحبون العدل . والشاعر صاحب فكرة يحب الرخاء والأمان والسعادة مثل أفلاطون الفيلسوف والعالم اليوناني صاحب كتاب المدينة الفاضلة فيقول ( أنا مسلة عدل عافه زمني , وسؤله ساخرٌ ياليتهم فهموا) . وراق لي فكر أفلاطون معتنقاً ... لكنه الدهر جرح ٌ غير ليس يلتئم ).
 وأما المفصل الثاني في القصيدة وهو مرتبط بما قبله ينم عن أمنية للشاعر أولها الكف عن النفاق من المحكومين والكف عن الاستعباد من الحاكمين وأن يعودوا إلى الفضيلة فيقول (متى تكف يد التقبيل تائبةً ....) والشيء الثاني في أمنياته أن يرى الأمان والسعادة يعمان كل الخلق فيرى عيونهم حالمة وينتهي الحزن والأوجاع والسجم
وفي الفكرة الثالثة يعرض الشاعر حال الأمة وتغيّرها من البيت الثاني عشر وحتي السابعة عشر فهو يرى الموت في كل مكان فيقول: ( الأرض غارقٌ بالموت..وكلها سبلٌ مفجوعةٌ ودم ) ويذكر بحادثة القتل الأولى على الأرض والخطيئة الأولى , وهي قتل قابيل لهابيل ويقول أن قابيل لم يجن ِ في حياته غير الندم على قتل أخيه (مازال هابيل في سفري .. "قابيل ماذا جنى كم لامه الندم ) , ويستجدي الغراب أن يعيد نبش التراب للناس لأنهم فقدوا الحكمة وقد ربط البيت الذي يليه فقال لضياع حكمتهم فقد تناثرت جثث الناس وأصبح قتلهم غنيمة ومكسب فيقول( يا غراب أعد نبش الأرض ...., تناثرت جثث لإنسان .....وقتل الناس مغتنم )وعندما يفقد الشاعر الأمل يقول : ( سأرتدي كفني فالدور يرقبني وللجريمة سفاح ومنتقم )لأن أماني الشاعر كلها خواء لتغير منظومة القيم والأفكار والمروءة ..
 وفي الفكرة الرابعة يعطي الشاعر ضوءاً على تغير حال الناس . وهي من البيت الثامن عشر وحتى التاسع عشر فيقول نحن نعيش في خداع الود فلا مصداقية بين الناس في مودتهم لبعضهم ولا محبة بينهم , وهم مستمرون على ذلك رغم تحذير الشاعر لهم فيقول : )فالود يخدعنا والحلم يهجرنا والقلب يشكو وعقد الحب منفصم ) .
 وفي الفكرة الخامسة التي يعلن فيها الشاعر فلسفته الحياتية ويعلن عن يأسه من الناس . من البيت العشرين وحتى البيت الرابعة والعشرين .فيقول الشاعر لما رأيت من الناس , وعدم سماعهم لندائي صرخت أي تفجرت الذات وكانت صرخته صماء . ياللهول لقد وصل الشاعر ‘إلى أقصى لحظات اليأس فصريخه صار بدون صوت وكان صريخ الفاقد, ما أعظم وصف الشاعر لهذه الحالة اليائسة وقد انعكست عليه وعلى عمره الذي أخذ يهوي ويتراجع مهزوماً فها هو الشاعر يقول( وصرخت صرخة صماء نادبة عمري بلا أمل يهوي وينهزم ) ثم يواصل الوصف لحاله, وهنا يبرز فلسفته في الحياة التي انقلبت رأساً على عقب وقد سار دون هدى في هذه الحياة فيقول ( استمرئ الزهو من صحراء أمنيتي وأحتوي فشلي , فما ظفرت الهوى يوماً بعاطفتي ولا دنوت من الإلهام يضطرم , سألت فلسفتي .....فلا يقين بها والشك مرتسم , مازلت مرتحلاً من دون خارطة ٍ.....عقلي يسابقني ...) وفي الفكرة السادسة والأخيرة وتشمل الأبيات الثلاثة الأخيرة وهي فكرة التناقض التي وصل إليه الشاعر بعدم فوزه من تحقيق ما يدعو إليه , فيعيد ترتيب أوراقه ليحرقها التي لم تعد تجدي ويصل إلى قمة القناعة وفقدان الأمل في الناس , ومن دعوته لهم فيقرر الانزواء والبعد عنهم وتركهم في هذا الزمن العاثر مبتسماً .فما سر هذا الابتسام ؟
لغة الشاعر قوية رغم الحزن والأنين, وخيبة الرجاء التي تنبعث من القصيدة , ألفاظها سهلة , بعيدة عن الغريب في سياق رائع الحبك والسلاسة مترابطة الأبيات . ويتغلب صوت الأنا يعلو مزمجراً في القصيدة في التسعة أبيات الأولى , لكنه يختبئ وراء شخصياتٍ مشاركة في القصيدة دون إقحام من الشاعر في الأبيات الستة التالية لتحقيق فكرته , وللمناسبة , فلا تكلف في الألفاظ أو حشو .ويعود صوت الأنا يظهر بجلاء إلى نهاية القصيدة ؛ ليدلل على ثقل الأجداث على نفس الشاعر القلقة المضطربة والمنهزمة, ويظهر ذلك في قوله (هزني ,أهوى , سألت نفسي ,ليلي يحاصرني , جسدي , أنا ك سيزيف ,أنا ديوجين , ما زلت )وهكذا إلى نهاية القصيدة .
 يتغلب عدد أبيات القصيدة التي تبدأ بالجمل الاسمية الوصفية على عدد الأبيات التي تبدأ بالفعل, وقد بلغ عددها واحد وعشرون بيتاً , فقد أخذ الشاعر النصيب الأقوى في وصف حالته وما به من هم وألم, وصوّر نفسه بشخصيات استدعاها لبيان حالته, وتردي حال أمته والحروب المفتعلة التي أودت بكل شيء, ودمرت كل شيء . وأما الأبيات التي بدأت بالفعل وعددها عشرة أبيات فقط جاءت داعمة لعرض حال الشاعر وحال الوضع الذي يعيشه في قوله ( أهوى معالي الرؤى ..., سألت نفسي ... , أجول في عجبٍ ...,وراق لي...,تناثرت جثث الإنسان ...,أعيب حولي ... , وصرخت .. ,استمرئ الزهو .. , سألت فلسفتي... , أعيد ترتيب .. .)
 وظف الشاعر الفعل الماضي خمس عشرة مرة لوصف كينونته وذاته الحزينة الآسفة المفجوعة , ولحال أمته المتهالكة والمنحرفة المنجرفة عما يريد لها الشاعر من تماسك وقوة واستعادة مجدها وقيمها , ودرء الخطر عنها في(هزني , ساء , رأيت , عافه , درست ....).
 كما وظف الفعل المضارع اثنتين وثلاثين مرة . أي ضعف توظيفه للفعل الماضي . والمضارعة جاءت لتعزيز فكرة الشاعر من بداية القصيدة لنهايتها , ووصف آني ومستقبلي متلازم مع استمرار الحالتين حالة الأنا المتكلم وما وصلت إليه من أسى وحزن ويأس ,وحالة الأخر "هم " أي من يعنيهم الشاعر كما ورد في القصيد .ومن هذه الأفعال ( أهوى ,يؤرقني , يحتدم , يحاصرني , ويتركني , أبحث , أجول , ليس يلتئم ....الخ) وكلها أفعال تنم عن محاصرة للذات وهزيمة وخيبة أمل ورجاء في سماع صوته والعمل بما ينبه إليه .
أما الفعل الأمر فقد ورد في القصيدة مرة واحدة استنجد فيه بالغراب ليعيد نبش الأرض؛ أي ليعيد قصة القتل الأولى على الأرض ؛ حتى يذكر الناس بسوءة عملهم وأننا عدنا لزمن الغدر واللاقيم .وهو فعل (أعد ).
 وورد فعل مستقبلي مرة واحدة ليدلل على رؤية الشاعر المستقبلية , فالأذى والموت سيطول الجميع , حتى الشاعر لن ينجوىً منه , فيقول: ( سأرتدي كفني ).هذه الأزمنة التي وظفها الشاعر مختلطة في القصيدة واختلاطها يدلل على اضطراب الحياة وسوئها, واضطراب نفسية الشاعر بسبب ذلك .
 وردت بعض المشتقات عفوية ضرورية في القصيدة كاسم الفاعل (ساخر , سفاح , منتقم ) ضمن الوصف الوارد في الأبيات . كما تعج القصيدة بالأحوال والصفات لتعطي تصويراً حقيقياً صادقاً للشاعر , ولمن حوله , وللوضع بكامله , كانت كنمنمات تصويرية دقيقة أعطت لوحة فنية جميلة متناسقة الإخراج .
القصيدة بها  من الأساليب المتنوعة الكثيرة المتشابكة المتعاضدة والمتداخلة التي لم تثقل على القصيدة ,ولكنها وسعت من مساحة الوصف ؛ وإبراز ما يريد الشاعر طرحه للمتلقي ؛ وحتى يبين أنه محق فيما وصل إليه من قرار .ومن هذه الأساليب : أسلوب التعجب في ( كم هزني الشعر ...) بدأت الجملة بكم الخبرية التي من حناياها
 يفوح تعجب الشاعر من سوء حظه فلا زهو له ولا قسم (ويح الأماني غدت جرداء قاحلة ......)وهنا بالإضافة للتعجب يصل الشاعر لقمة الخواء لفقدان
الأماني وتغير الأفكار وشيم الناس .
أسلوب  الاستفهام في ( متى تكف يد التقبيل ..؟ , متى تنام عيون الخلق .....) وكلها تفيد الحسرة وتبين وجع الشاعر الحقيقي من التمرغ في فقدان الكرامة والقلق والخوف الذي اجتاح الناس .
أسلوب الاختصاص الذي تكرر في القصيدة ليعرف الشاعر بنفسه وانفراده بشخصية متميزة عن غيره فله ليل يختلف عن ليل الآخرين فهو يحاصره ؛ليدلل على سواد الذات المفعمة بالهموم وثقل المسئولية فيقول ( ليلي يحاصرني بؤساً ...) ويشبه نفسه سيزيف وينفرد لوحده بهذا التشبيه وكذا بديوجين في قوله ( أنا كسيزيف ...., أنا ديوجين .. , وهو إنسان واضح , ذو موقع ٍ مرموق ٍ سهل رؤيته من الأشياء التي يعتز بها لأنه إنسان قيم وفائدة للجميع في قوله ( أنا مسلة عدل عافه زمني...)
 أسلوب النفي . يرد أسلوب النفي تعقيباً في عجز البيت ليثبت قول الشاعر ووجهة نظره وسبب صرخته ( في قوله عمري بلا أمل ٍ يهوي وينهزم , ولا دنوت من الإلهام يضطرم ) , وهنا يؤكد الشاعر عجز فلسفته عن الوصول لمخرج من أزمته الذاتية , فلم يجد لها مخرجاً فيقول : (فلا يقين بها والشك مرتسم ) , وهنا تأكيد آخر على التناقض بين ما يحمل منتقم وأفكار وبين ما يسود من أفكار فيقول كنتيجة لذلك :(فلا أفوز ولا أرضى وأحتكم , فلا يجدي به الكلم ) كما يأتي أسلوب النفي في بداية البيت تأكيداً وتعقباً على أمر سابق فيقول فما ظفرت الهوى يوماً بعاطفتي ولا دنوت من الإلهام يضطرم ).فالنفي عنده قوة للفكرة المطروحة .
ويرد في القصيدة أسلوب التوكيد فيوظف التوكيد المعنوي تارة للشمول ودعم ما يقول في قوله (سر التفكر هم ٌ كله ألم ) وفي بيت آخر يقول ( وكلها سبل مفجوعةٌ ودم ) , كما يؤكد( بقد) التي تفيد التحقيق والتوكيد معاً
فيقول في البيت السابع عشر (وقد تغيرت الأفكار والشيم ليؤكد على تغير قيم الناس وأخلاقهم للأسوأ.
الصوّر الجمالية والمحسنات البديعية في القصيدة
جاءت الصور بشكل غير متكلف رغم أن القصيدة مليئة بالمجاز والاستعارات والكناية والتشبيه فالقصيدة موشاة بنمنمات جميلة الحبك من بدايتها وحتى النهاية .
الصورة الجمالية نوعها
كم هزني الشعر والأوراق والقلم ... استعارة مكنية  تفيد التشخيص والحركة فقد شبه الشعر والأوراق والقلم بأشياء لها أطراف تهز الشاعر. .
أهوى معالي الرؤى عشقاً يؤرقني .. استعارة تصريحية فقد شبه معالي الرؤى بالمعشوق
الذي من عشقه لا ينام الليل لانشغاله فيه .
ليلي يحاصرني .  استعارة مكنية فقد شبه الليل بالجنود أو العدو الذين
يحاصرونه ويشددون الخناق عليه .
أنا كسيزيف . تشبيه ووجه الشبه المعاناة رغم أن شاعرنا يختلف في
صفاته وأفعاله عن سيزف.لكن سيزيف يعاني جسدياً
والشاعر يعاني معنوياً.
أنا ديوجين تشبيه بليغ .
أنا مسلة عدل تشبه بليغ واستعارة مكنية.
لكنه الدهر جرح ليس ملتئم .  تشيه بليغ فقد شبه الدهر بالجرح المستعصي على
الشفاء .
متى تكف يد التقبل. استعارة مكنية للتشخيص
الأرض غارقة بالموت . كناية عن كثرة القتلى .
تناثرت جثث الإنسان عارية استعارة تصريحية وهي كناية عن شدة وكثرة
القذائف الفتاكة للإنسان .
سأرتدي كفني كناية عن فقدان الأمان وتطاول الموت على الجميع ,
والشاعر أحدهم .
ويح الأماني غدت جرداء قاحلة ً.  استعارة مكنية فقد شبه الأماني المعنوية بالصحراء .
نكتفي بهذا القدر مما عرضنا من الصور الجمالية والقصيدة تزخر بما يزيدها وقعاً وقو تأثير .
وقد ورد من المحسنات البديعية كالمترادف في الألفاظ والطباق .
ففي المترادف يقول :أنا مسلة عدل عافه زمني منسية .
 وفي بيت آخر يقول: حل الفناء وقتل الناس ,وفي مكان آخر يقول: وللجريمة سفاح ومنتقم وهكذا إلى آخر القصيدة .
والجناس الناقص في حكمة الناس وحكم
ويكاد يخلو الطباق في القصيدة إلا في فلا يقين بها والشك مرتسم فالطباق بين الشك والقين لكن اليقين  جاء منفياً داعماً للشك .
 ومن هنا نستنتج أن القصيدة جاءت مترابطة الفكرة والألفاظ الواردة تؤيد الفكرة وتعاضد الشاعر فيما يرى . وفي القصيدة لب التجديد رغم شكلها الكلاسيكي ففيها وحدة الموضوع .
استعان الشاعر بالأسطورة اليونانية فوظف شخصية سيزيف ,فسيزيف معاقب من الآلهة لأنه كان خداعا وغادراً فحكم عليه بدحرجة صخرة ضخمة على تل منحدر وشاعرنا إنسان محب الخير لبلده ولأهله وللناس أجمع . لكن الصبر والجلد والمعاناة جمع بينهما .
وديوجين شخصية تركية . وهو الذي عاش داخل برميل وسط حياته بعد أن خرج من أسر القراصنة , كان يؤمن بأن الحكمة لا تتحقق إلا بالحرية التي تستوجب هدم القيم والأعراف وهو الأخر بعيد في فلسفته وسلوكه عن الشاعر, فقد كان وديوجين حاملاً قنديلا ًمتقدا يبحث عن الإنسان وشاعرنا يبحث عن الإنسان الذي يحافظ على الإنسان ويعطيه حياته وحريته وحقوقه وهذا موضع التقاء الشخصيتين .
 وأما أفلاطون فهو الفيلسوف والعالم الرياضي والفنان والعبقري وهو شخصية يونانية مشهورة لحتى يومنا صاحب فكرة المدينة الفاضلة, والذي تطابق فكره مع فكر الشاعر من حيث طلب الأمان والسعادة للبشر غير أن مدينة أفلاطون كانت لأناس ٍ تنطبق عليهم شروط معينة , لكن دعوة الشاعر وطلب المحبة والأمان واحترام الإنسان للجميع , واستدعاء هذه الشخصيات والتي تمثل عصوراً مختلفة يزيد من اتساع أفق القصيدة ألزماني والمكاني .
كما استدعى الشاعر زرقاء اليمامة الفتاة العربية صاحبة العينين الثاقبتين الحادتين في النظر, الكاشفة لمسافات ٍ بعيدة فكانت مثابة منظار ومحذر لقومها من شر الأعداء ويتوافق معها الشاعر في أن كليهما كاشف ونذير من الأخطار التي تحيط بالأهل. هي تراها بعينيها وهو يرى بعقله. لكن قومها لم يسمعوا تحذيرها فتحققت هزيمتهم وأهلكوا على يد أعدائهم الروم .وكذلك أهله لم يستمعوا لنصائحه فهذا هو حالهم المتردي من القتل والتشاحن والهجرة .
 كما أن الشاعر استدعى شخصية قابيل الذي قتل أخاه هابيل بدافع الغيرة والحسد فقد حسد أخاه على زواج أخته الجميلة وحسده على تقبل قربانه ؛ لكنه لم يجن غير الندم الدائم على فعلته الشنعاء .ووظفها كتحذير لكل من تسول له نفسه بارتكاب الجرائم واغتصاب حقوق البشر وقتلهم .
ثم استدعى الغراب الذي ورد في قصة دفن قابيل لجثة أخيه وهو الذي علم قابيل كيف يواري  سوءة أخيه .لكن الغراب في القصيدة لن ينبش ؛ ولكنه سيعيد النبش من جديد للجميع للشاعر ومن يخصه . وقد تساووا هم وقابيل بضياع الحكمة والتقوى والنصيحة , وهنا إشارة إلى القرآن الكريم فقد وردت قصتهم صراحة ً في القرآن الكريم وهذا تجديد آخر أدخله الشاعر على القصيدة الكلاسيكية .
 للشاعر فلسفة خاصة به ظهرت معه من أول القصيدة حتى نهايتها فالشاعر المتسائل ينشد الاستقرار الفكري .فتساؤله تساؤل الفلاسفة والحكماء , فالشك يولد التساؤل فالتحليل للمواقف ثم الاستنتاج والوصول لليقين .فلما تيقن الشاعر بعدم جدوى نصيحته قررا الاعتزال وتركهم يواجهون مصيرهم السيئ .وهنا أقول ان الحالية التي اختارها لنفسه لم تكن فرحاً وانبساطاً , لكنه كان مبتسما نتيجة إرضاء الضمير , وكونه لم يقصر من واجبه,ولكنهم هم المقصرون في حق أنفسهم .
 تظهر رومانسية الشاعر الحزينة جلية من خلال أبيات القصيدة أنظر أبيات القصيدة وتمعنها فلا داع ٍ لإعادة الأبيات . هكذا نراه يغدق في مخاطبة الذات ويعود لداخله بعد هزيمته وعدم سماع أهل بلده لنصيحته , وهو يتمثل بشخصيات متفردة الحدث أيضاً مهزومة وصاحبة فكرة في مجتمعاتها .
موسيقى القصيدة
 الموسيقى الخارجية . فالقصيدة من البحر البسيط مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن وهو بحرُُُُ من البحور التي يجد فيها الشاعر متسعاً للبوح والزفر عما في داخله.فبحر البسيط من البحور الطويلة يسرة الغناء وجميلة الموسيقى .
وقد اختار القافية الميمية الشفوية المناسبة لجو القصيدة وموضوعها .
أما الموسيقى الداخلية فالقصيدة قطعة موسيقية متكاملة فقد حوت تلاحق العبارات وتواترها  وتقاربها في اللفظ وفي وحدات الزمن في البيت الواحد .خذ مثالا في أحد أبيات القصيدة يقول الشاعر: ( فالود يخدعنا والحلم يهجرنا والقلب يشكو وعقد الحب منفصم )
وفي تشابه الكلمات وتكرار الحرف الواحد موسيقى جميلة يقول الشاعر : (وصرختي صرخةٌ صماء نادبةٌ)
 القصيدة مليئة بالتكرار العفوي الجميل وهذا درب من دروب الموسيقى الداخلية فيقول في بداية أبيات ثلاثة متلاحقة (أنا ك سيزيف , أنا ديوجين ,أنا مسلة عدل )
 ويتكرر حرف النفي لا مع المتكلم ليعطي أيضا وقعاً جميلاً في أبياتٍ متلاحقة فيقول: (ولا دنوت , فلا أفوز ولا أرضى ,فلا يجدي .).وتنتشر ياء المتكلم على سطح القصيدة بجميع حالاتها فنراه يقول(هزني ,حظي , يؤرقني ,نفسي ,ليلي يحاصرني ,جسدي ,عيني ,زمني,سفري , سأرتدي ....الخ ) بالإضافة إلى كلمات أخرى انتهت بالياء . وتشكل المدود بأشكالها الثلاث موسيقى داخلية فهي مناسبة للموسيقى الحزينة التي تحتاج إلى إطلاق ٍ كما في صوت الناي المنفرد والكمان .
 في ختام دراستي وصلت كدارسة إلى أن القصيدة حيوية جريئة كلاسيكية في ثوب قشيب, تجديد في كل شيء في الموضوع , والوحدة العضوية للموضوع سلاسة الألفاظ وسهولتها ودقتها استدعاء الشخصيات وتوظيف الأسطورة , وجوها الفلسفي الديني واكتنازها بالموعظة والحكمة والقيم الاجتماعية والنجاح في عقد حبكة القصيدة والخروج منها .
 وإذا ما تحدثت عن القصيدة فيرجع الفضل للشاعر الذي كتب وصاغ . فهو قارئ ودارس مطلع متجدد صاحب فكرة بحس أخلاقي فلسفي ديني يُقدر.
بقلم أستادة / هدى مصلح النواجحة
28 /12 //2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق